رغم أن عمله الأساسي هو إمام مسجد في نجع حمادى بصعيد مصر ، فإن أحمد عبد الغني شاعر له عدة دواوين شعرية مابين العامية والفصحى، أهمها “الشاعر والناس” 1987، و “الطلوع المر” 2009 ، و“طيور السما” 2009 ، و“بقايا الخوف” 2011 ، و”الفارس والجواد” 2010، لكنه نال شهرته من خلال بحثه فى المورث الشعبي.
وفي كتابه العدودة القبطية القنائية ، يحاول الباحث أحمد عبد الغني (1) ، الغوص فى أعماق مجتمعه الجنوبي وتحديداً فى قرى ومدن محافظته قـنا، مستخلصاً للمرة الأولى على ما يبدو ، من هذا الرصد ما يسمى بالعدودة القبطية ، فقد قام الباحث جاهداً بجمع المزيد من تراث هذا الفن ، بغية تقديم هذه النصوص لعاشقي التراث الشعبى الحزين ، وربما قد اهتدى الباحث بفطرته فى مجتمعه المحيط إلى هذا اللون من الفن ( المراثي المسيحية ) فى مدينة نجع حمادى وقراها خاصة قرية بهجورة،حيث يوجد تباين فى العدودة القبطية، لا تحفل بالتكرار أو الحشو ، أو الابتذال فى اللفظ والمفردات ، كما كان ذلك متاحاً فى مدينة دشنا وبعض قراها المحيطة فى أبو مناع وعزب النصارى ، ثم انطلق الباحث بعد ذلك موجهاً عنايته ، فى مدينة الأقصر ونواحيها بالكرنك وخزام والريايينة بمركز أرمنت وأرمنت الوابورات ، بعد أن كان بحثه منصباً فقط فى مجتمع نجع حمادى ، باعتبارها مسقط رأسه وبيئته الأولى ، حيث قسم الباحث كتابه إلى إثنى عشر باباً ، مصنفاًً كل مجموعة من العدودات على حدة ، ومن ثم إحالتها إلى أنماط ثقافية كوحدات تختص كل منها بفئة بذاتها ، فعدودات الكبار ، لها اختلافها الظاهر عن عدوادات الأطفال وصغار السن ، كذلك الرجال عن النساء ، وباقى الفئات والمراتب الدينية .
كان لا بس التاج والخواتـم خوص
عيل بيلعب وماسك كعاب البوص
وسط العيال بيجري
ومزوق الأعياد
والخويصه حزنت لما الولد ما عاد
هذا من جانب المرحلة العمرية والحالة النوعية ، أما من ناحية الحالة الفئوية ، فالملاحظ أن هناك تبايناً واختلافاً تعبيرياً ، ما بين عدودة المتوفى الشاب أو الشابة ، عن الراحل الصبي أو الصبية ،
فوق الكنيسة وزقزق القمري
ورحت فين يا حبيبي يا عمري
فوق الكنيسة ووقفت يا بو فصادي
ورحت فين يا عمري يا حصادي
فوق الكنيسه وزقزق الزرزور
ورحت فين يا حبيبي يا غندور
كذلك الفتـاة العذراء الراحلة قبل الزواج ، أو التي توفيت بين أهلها ، أي فى دارها لكنها مخطوبة ، فيختلف منطوق عدودتها ،عن تلك المرأة التي تزوجت أو هي محرومة الذرية ، أو حتى الأخرى التى توفيت أثناء ولادتها (النّفسه).
عدرا كانت قنديل منور ف وسطينا
ومن غناها الحلوة بتطربنا وتحيينا
عنيها بحور تتوه مراكب تروح وما تـجينا
كما أن هناك اختلافاً ظاهراً مابين عدودات المراتب الدينية، فالشماس غير القرابني غير القمص، وصولاً إلى أعلى المستويات الدينية فى قداسة المطران، أيضاً هناك عدودات مخصوصة لأحزان الرحيل على الراهب والراهبة ،كما أن هناك عدودات تقام خصيصاً(للمندبة المسيحية) وهى طقوس حزن عالية المعنى، تقام عند وفاة الشخصيات الهامة أو ذات المقام الرفيع، أو هي لطبقة الأثرياء ، والمندبة عموماً هى لطم الخدود بكلتا اليدين بطريقة مؤلمة، وهى تأنيب للنفس وإيلام للذات، إفراطاً فى الحزن على رحيل الشخص المتوفى ، والفرض فى هذا الاختلاف كله، هو التنويع وإضفاء صفة الخصوصية، على روح هذا الميت الراحل، بهذا العديد وطقوس الحزن المختلفة، أما الغرض التعبيري فى كل هذه العدودات، يخلص إلى تـناول حيـاة الإنسان المرتحل كحالة مفردة، وذكر بعض مآثره أو آماله أو طموحاته، أو أية اتجاهات دنيوية أخرى اشتهر بها، وهى اتجاهات حياتية عادية لأفراد المجتمع القبطي، من الشخصيات العامة جميعاً كالوفاء والكرم ومحبة الناس والعطف على الفقراء، ومنها من يذكر بعض العادات السيئة للمتوفى الراحل كشرب الخمر، أما الشخصيات الدينية بالذات، كالقمص والقرابني والشماس أي (خادم الكنيسة) والراهب وغيرهم، تسمو العدودة معهم فى لغة خطابها، لما لهذه الشخصيات من قداسة واحترام، داخل المجمع الكنسي، أو حتى فى المجتمع القبطي على وجه العموم، وتحاول العدودة القبطية ، تمييز هؤلاء الأفراد عما عداهم، من عامة الناس، وإفـراط الأنين والتوجع على رحيلهم، إنما هو إطناب فى التبجيل واعتراف بعلو المكانة،
مات الحبيب وف ايده انجيله
شاف المسيح ساند ومديله
سافر ولم البركه ف منديله
وكان يا دنيا غرقانك
ولا حد يمد له ايده
ونتمنى يدخل الجنه
ايده ف ايد سيده
ولهذا تتعدد الطرز التعبيرية فى رثاء أولئك القديسين، حتى ترتدي أثواب التعدد من القول، قوالب شتى من فنون التعبير، فمن النظم إلى السجع صعوداً إلى المربع ،
الدنيا تبكي على فرقة المطران
والخلق تبكي وتترش بالقطران
أمانة يا مسافر كتر الأحزان
دا العيشة مره والقليب حزنان
ولا تكاد العدودة القبطية تفلت من هذا الاحترام والتبجيل الكبير، أي فرد من تلك الشخصيات الدينية من أعلى مراتبها إلى أدناها:
جاني الخبر قلبي اتقسم نصين
والهم سكين الحشا على راهبنا الزين
يا بحر حكمه ومحبه واللى زيك فين
يا راهبنا يا مفارق حنبكي عليك سنتين
ونشتاق الدوا واللمه والبركات
ونتفكر اللي عملته فى عمرنا اللى فات
إحنا حنفتكرك بالجبنوت وبالدعوات
ولأن هذا الإسهاب التعبيري، يؤكد سمو فكرة الحزن ذاتها عند الأقباط، وعلوها فى نفوسهم، حتى مع المراتب الدينية ، فالكل راحل، ومن بقى سينهل معينه من كأس الحزن على من فقد، لكن الحزن سيبقى (عدودة) بقدر ذوات من رحلوا من الحياة :
الطاعة تشهد له وأدب يفوق الكل
شماس وطبه جميل ريحته تفوق الفل
لو ينده القسيس يصحى يرد يطل
بتحبه كل الناس وهو ليهم خل
ولما خطفه فراق الكل شربوا الخل
يبكوا بدمع غزير والكل نام ف الطل
ومن الملاحظ أيضاً ًأن العدودة القبطية فى أنحاء قنا، قد لا تضم أو تحوى أية مفـردات لوسائل السفر والترحال الحديثة مثل (القطار أو الباخرة أو الطائرة) وإن ورد لفظ (المركب) مرة يتيمة .
قلبي ف الدنيا وحده ومتمزع من الغربه
على سيف البحر بابكي مع الموجه
يا مركب الأحباب خدينا للعدرا
كذلك لم ترد تلك المفردات بالمندبة المسيحية، ولكن العدودة القبطية فى بعض الأحيان، تحفل بإيقاع موسيقي ملموس، قد يدخلها مباشرة ، فى نطاق فن الواو أو المربعات، ومما سبق نرى أن للعدودة القبطية طرز تعبيرية متعددة في نصوص (عامية) تبدأ من السجع والنظم وتبرز في فن الواو، هذا الفن الشعري الشفاهي، الأكثر انتشاراً في بيئات جنوب الصعيد، خاصة قـنا بمراكزها وقراها شمالاً وجنوباً على حد سواء، وفن الواو هو فن ذو صيت واسع ، تشتهر به قنا، لأنه يجري على ألسنة البسطاء والعامة ، خاصة الكبار والعجائز منهم، ومن هذا السياق هذا المربع فى عدودة الراهب :
يا دنيا يا خاينه
وبتخطف الراهب
عند القبور يا صليب
كله صبح راهب
لكن افتقار العدودة القبطية لهذه المفردات المذكورة آنفاً، وهي مفردات القطار و الباخرة و الطائرة، لا ينتقص من ظواهر الفن فى العدودة القبطية وطبيعتها، كالسجع مثلاً فى أبسط مثال، ولكن يمكن أن يحيلنا هذا الخلو الظاهر من بعض هذه المفردات فى العدودة القبطية، إلى نقائها وعفويتها الأولى واحتفاظها دهوراً برونق قاموسها اللغوي، من كل تعبير دخيل، وهو اتجاه محافظ، قد يرى فى بهرج اللفظ ابتعاداً عن وقار الحزن وهيبته، فظـلت العدودة القبطية كما هي ترتدي ثوبها التاريخى العتي، وهو تأكيد دامغ لانقطاع أى تحديث أو إضافة لاحقة عليها، من قبل المحدثين حتى الآن، فظل النطق بها والتغنى بمفرداتها، كما وردت وكما حفظت ورددها المجتمع المسيحي كما هي، على مدار أزمان متعاقبة، لم تصلها أيادي التعديل، حتى من قبل السيدة الندابة أو (المِعَدِّدَة) التي تحفظ كل ما وصل إليها من هذا التراث، وترتله دامعة على رحيل من ماتوا فى مجالس الأحزان، ورغم أنها يقهرها ويدميها، فتستمر فى التطلع إليه بعين التبجيل والاحترام، كنصوص مقدسة ومتواترة، لا يجب غبنها، أو التجرؤ بالعبث بنصوصها، بل يحق المحافظة عليها:
يا عم يا قرابني ويسد بعدك مين
يا عم يا طيب وبس اللي زيك فين
لم الدقيق م البيوت وفاته على حاله
هاتوا لنا أكبر عياله يعدل له أحواله
يخبز ويعجن يصبح قرابني حلو قربانه
كفنوا القرابني المفارق فنه وصلبانه
وبهذا يمكننا التأكيد على أن العدودة القبطية، وإن تراوحت ما بين طولها وقصرها، هي نصوص مصرية أصيلة، يرجع تاريخها فى بلادنا إلى العصور الوسطى، والدليل على ذلك غناها بتعبيرات وتشبيهات وكنايات محلية، إن مفردات الحزن التى أتت بها العدودة القبطية، هى من نتاج خالص للبيئة المصرية، فذكر الشهور والزروع والطيور والسوائل، مازال عبقه مصرياًً، أيضاً فإن فن الواو كان فناً مصريا نشأ فى جنوب بلادنا ، واستمر باقياً بها حتى الآن.
مطران وجاله ولد حَداد
وفتح ضرفتين بابه
حزين وتوبه حِداد
ميت أبوه فى شهر بابه
كما أن ذكر بعض النباتات والطيور، والمواد والأصباغ ذات الألوان القاتمة والطعم اللاذع، جاءت فى ألفاظ ( العلقم – الحنظل - المر – الخل - الزيت - القطران ) ومفردات الطيور عامة كناية كانت على أرواح المتوفين، التى تفر لحالها راحلة، وكانت في ألفـاظ (القـمري) وهو انفراط عقد الجماعة أو اللمـة بعد رحيل الميت، وهم الأهل والأصحاب – أما طائر أبو فصادي فيأتى ذكره فى العدودة القبطية كناية عن الوحدة، وكذلك ( الزرزور) هو ضعف الجسد وبلاؤه بعد النهاية، أما شراب المر يأتي فى عدودة شارب الخمر، الذى أنفق ماله على هـذه الآفة حتى مات حافـياً، بعدما كان شـاباً يافعاً، وظل خوف أهله باقياً دنيوياً على مصيره الأخروي:
راح الكنيسه وفات مركوبه
والعرق المكرر كان مشروبه
رايح وساب الكاس
والمر مكتوبه
والقبر ضلمه ولا حد محبوبه
أما طائر الغراب، فيظل القاسم المشترك لكل من الرحيل والفراق ونذير الحزن، وتقف بجانبه الحدادي كرمز للأعداء والخاطفين المنقضين بالفواجع والنوائب الفجائية، وللنباتات دلالتها المؤكدة فى العدودة القبطية، خاصة شجرتي (المر والدوم ) فهما رمز للجفاف وعطش الحرمان، ونجد ذكر هذه النباتات يأتي خاصة فى عدودات العذراء، وهي الحزينة الأبدية، التي ماتت قبل إتمام فرح زواجها، وملاقاة مصيرها فى بيتها الأخروي وهو (القبر) وهل هو الجنة التى تبدو أحن وأفضل وضعاً من سكنها الدنيوي؟
يا عدره الأيام زرناكي ف ديارك
لا جينا نـهني ولا حتى بنبارك
جينا حزانى وبيبكوا أحبابك
والقلب دايب وزاعق لنا غرابك
مين اللي وداكي ومين جابك
بيتك الجديد أحسن ولا القديم أحسن
بيتي الجديد قدامه كترت الموده وحرمت الدخله
بيتي القديـم قدامه دومه وحرمت النومه
وخيراًً فعل باحثنا، بتجميع وتسجيل هذا القدر الوافر من هذه العدودات القبطية، فى سبيل إنصاف أحد موروثاتنا الشعبية المنسية، وقبل أن تطمر المدنية الحديثة فى زحفها المتواصل، ما بقي من تراث أصيل لمجتمعاتنا الجنوبية، ومنها هذا اللون من التراث، متمثلاً فى العدودة القبطية، التى حافظ عليها المجتمع المسيحي الجنوبي، كإرث روحي مكنوز، وإن ظل احترام هذا الإرث قيمة متواصلة، لكنها دامت باقية دون فتح مكامن هذا الإرث، ومن ثم التوقف عنده بالبحث و الدراسة، كواقع ثقافي وإبداعي مؤكد، لا يمكن إنكاره، أو إغفال منابعه الشعبية ، وروافد بيئاته التى أنتجته.
1. أحمد عبد الغنى، العدودة القبطية القنائية – مطبوعات أمسيه omsaya– qena – 2010.